الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْأُنْسُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الْأُنْسُ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ اسْتِحْلَاءُ الذِّكْرِ. وَالتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْإِشَارَاتِ. هَذِهِ اللَّفْظَةُ يُجْرُونَهَا فِي كَلَامِهِمْ- أَعْنِي لَفْظَةَ الشَّوَاهِدِ- وَمُرَادُهُمْ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَقِيقَةُ. وَهِيَ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الْعَبْدِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَيُبْصِرُهُ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ. فَكُلُّ مَا يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ: فَإِنَّهُ شَاهِدُهُ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الْعَمَلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الذِّكْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدَهَ الْمَحَبَّةُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ شَاهِدُهُ الْخَوْفَ. فَالْمُرِيدُ: يَأْنَسُ بِشَاهِدِهِ. وَيَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ. وَالثَّانِي: شَاهِدُ الْحَالِ. وَهُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ. وَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِهِ، وَسُلُوكِهِ وَحَالِهِ. فَإِنَّ شَاهِدَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ. وَمُرَادُ صَاحِبِ " الْمَنَازِلِ ": الشَّاهِدُ الْأَوَّلِ. الَّذِي يَأْنَسُ بِهِ الْمُرِيدُ، وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى اسْتِحْلَاءِ الذِّكْرِ، طَلَبًا لِظَفَرِهِ بِحُصُولِ الْمَذْكُورِ. فَهُوَ يَسْتَأْنِسُ بِالذِّكْرِ طَلَبًا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَيَتَغَذَّى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَتَغَذَّى الْجِسْمُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. فَإِنْ كَانَ مُحِبًّا صَادِقًا، طَالِبًا لِلَّهِ، عَامِلًا عَلَى مَرْضَاتِهِ: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الْقُرْآنِيِّ، الَّذِي كَانَ غِذَاءَ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَبَرَّهَا قُلُوبًا، وَأَصَحَّهَا أَحْوَالًا. وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا فَاسِدَ الْحَالِ، مَلْبُوسًا عَلَيْهِ، مَغْرُورًا مَخْدُوعًا: كَانَ غِذَاؤُهُ بِالسَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ. الَّذِي هُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، الْمُشْتَمِلُ عَلَى مَحَابِّ النُّفُوسِ، وَلَذَّتِهَا وَحُظُوظِهَا. وَأَصْحَابُهُ: أَبْعَدُ الْخَلْقِ مِنَ اللَّهِ. وَأَغْلَظُهُمْ عَنْهُ حِجَابًا وَإِنْ كَثُرَتْ إِشَارَاتُهُمْ إِلَيْهِ. وَهَذَا السَّمَاعُ الْقُرْآنِيُّ سَمَاعُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. وَيَحْصُلُ لِلْأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ مِنْ مَعَانٍ وَإِشَارَاتٍ، وَمَعَارِفَ وَعُلُومٍ. تَتَغَذَّى بِهَا الْقُلُوبُ الْمُشْرِقَةُ بِنُورِ الْأُنْسِ. فَيَجِدُ بِهَا وَلَهَا لَذَّةً رُوحَانِيَّةً. يَصِلُ نَعِيمُهَا إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَرُبَّمَا فَاضَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْأَجْسَامِ. فَيَجِدُ مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَمْ يَعْهَدْ مِثْلَهُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ. وَلِلتَّغَذِّي بِالسَّمَاعِ سِرٌّ لِطَيْفٌ. نَذْكُرُهُ لِلُطْفِ مَوْضِعِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ فِي إِيثَارِ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ. لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ غِذَاءِ الْقَلْبِ وَقُوَّتِهِ وَنَعِيمِهِ. فَلَوْ جِئْتَهُ بِأَلْفِ آيَةٍ وَأَلْفِ خَبَرٍ لِمَا أَعْطَاكَ شَطْرًا مِنْ إِصْغَائِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ وَأَرْبَابُ الْكَلَامِ. اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلْقُلُوبِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْغِذَاءِ: نَوْعًا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِسِّيِّ. وَلِلْقَلْبِ مِنْهُ خُلَاصَتُهُ وَصَفْوُهُ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ. وَالثَّانِي: غِذَاءٌ رُوحَانِيٌّ مَعْنَوِيٌّ، خَارِجٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ: مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ. وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَبِهَذَا الْغِذَاءِ كَانَ سَمَاوِيًّا عُلْوِيًّا. وَبِالْغِذَاءِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ أَرْضِيًّا سُفْلِيًّا. وَقِوَامُهُ بِهَذَيْنَ الْغِذَاءَيْنِ. وَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَغِذَاءٌ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. فَلَهُ ارْتِبَاطٌ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ. وَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنْهَا غِذَاءٌ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الشَّمِّ. وَكَذَلِكَ حَاسَّةُ الذَّوْقِ. وَكَذَلِكَ ارْتِبَاطُهُ بِحَاسَّتَيِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ: أَشَدُّ مِنِ ارْتِبَاطِهِ بِغَيْرِهِمَا. وَوُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهُمَا إِلَيْهِ أَكْمَلُ، وَأَقْوَى مِنْ سَائِرِ الْحَوَاسِّ. وَانْفِعَالُهُ عَنْهُمَا أَشَدُّ مِنِ انْفِعَالِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا. وَلِهَذَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اقْتِرَانَهُ بِهِمَا أَكْثَرَ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِمَا. بَلْ لَا يَكَادُ يُقْرَنُ إِلَّا بِهِمَا، أَوْ بِإِحْدَاهُمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}. وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وقال تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ. لِأَنَّ تَأَثُّرَهُ بِمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ: أَعْظَمُ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِمَا يَلْمَسُهُ وَيَذُوقُهُ وَيَشَمُّهُ. وَلِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ: هِيَ طُرُقُ الْعِلْمِ. وَهِيَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعَقْلُ. وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالسَّمْعِ وَارْتِبَاطُهُ بِهِ: أَشَدُّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْبَصَرِ وَارْتِبَاطِهِ بِهِ. وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْمَلْذُوذَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا يَتَأَثَّرُ بِمَا يَرَاهُ مِنَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. وَكَذَلِكَ فِي الْمَكْرُوهَاتِ سَمَاعًا وَرُؤْيَةً. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ حَاسَّةَ السَّمْعِ أَفْضَلُ مِنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ لِشَدَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْقَلْبِ، وَعِظَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهَا. وَتَوَقُّفِ كَمَالِهِ عَلَيْهَا. وَوُصُولِ الْعُلُومِ إِلَيْهِ بِهَا، وَتَوَقُّفِ الْهُدَى عَلَى سَلَامَتِهَا. وَرَجَحَّتْ طَائِفَةٌ حَاسَّةَ الْبَصَرِ لِكَمَالِ مُدْرَكِهَا. وَامْتِنَاعِ الْكَذِبِ فِيهِ. وَزَوَالِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ بِهِ. وَلِأَنَّهُ عَيْنُ الْيَقِينِ. وَغَايَةُ مُدْرَكِ حَاسَّةِ السَّمْعِ عِلْمُ الْيَقِينِ. وَعَيْنُ الْيَقِينِ أَفْضَلُ، وَأَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ. وَلِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا رُؤْيَةُ وَجْهِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ النَّعِيمِ. وَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ هَذَا التَّعَلُّقِ. وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا حَسَنًا. فَقَالَ: الْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ. وَالْمُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. فَلِلسَّمْعِ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالْإِحَاطَةُ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ، وَالْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَالْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَلِلْبَصَرِ: التَّمَامُ وَالْكَمَالُ. وَإِذَا عَرَفَ هَذَا. فَهَذِهِ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ لَهَا أَشْبَاحٌ وَأَرْوَاحٌ، وَأَرْوَاحُهَا حَظُّ الْقَلْبِ وَنَصِيبُهُ مِنْهَا. فَمِنَ النَّاسِ: مَنْ لَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا نَصِيبٌ إِلَّا كَنَصِيبِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ مِنْهَا. فَهُوَ بِمَنْزِلَتِهَا. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَوَّلُ دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِهَذَا شَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُولَئِكَ بِالْأَنْعَامِ. بَلْ جَعَلَهُمْ أَضَلَّ. فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَلِهَذَا نَفَى اللَّهُ عَنِ الْكُفَّارِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعُقُولَ. إِمَّا لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا. فَنُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَعْدُومِ. وَإِمَّا لِأَنَّ النَّفْيَ تَوَجَّهَ إِلَى أَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهَا، وَإِدْرَاكِهَا. وَلِهَذَا يَظْهَرُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ انْكِشَافِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ. كَقَوْلِ أَصْحَابِ السَّعِيرِ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَمِنْهُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى صُورَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُبْصِرُونَ صُورَةَ نُبُوَّتِهِ، وَمَعْنَاهَا بِالْحَاسَّةِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي هِيَ بَصَرُ الْقَلْبِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْأَصْنَامِ. ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ. وَلَا أَبْصَارَ لَهُمْ يَرَوْنَكَ بِهَا. وَالثَّانِي: الْمُرَادُ بِهِ الْمُقَابَلَةُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: دَارِي تَنْظُرُ دَارَكَ. أَيْ تُقَابِلُهَا. وَكَذَلِكَ السَّمْعُ ثَابِتٌ لَهُمْ. وَبِهِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَمُنْتَفٍ عَنْهُمْ. وَهُوَ سَمْعُ الْقَلْبِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ الْحِسِّيُّ الْمُشْتَرَكُ، كَالْغَنَمِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ إِلَّا نَعِيقَ الرَّاعِي بِهَا دُعَاءً وَنِدَاءً. وَلَمْ يَسْمَعُوهُ بِالرُّوحِ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ رُوحُ حَاسَّةِ السَّمْعِ، الَّتِي هِيَ حَظُّ الْقَلْبِ. فَلَوْ سَمِعُوهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ: لَحَصَلَتْ لَهُمُ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ، الَّتِي مَنْشَؤُهَا مِنَ السَّمَاعِ الْمُتَّصِلِ أَثَرُهُ بِالْقَلْبِ. وَلَزَالَ عَنْهُمُ الصَّمَمُ وَالْبَكَمُ. وَلَأَنْقَذُوا نُفُوسَهُمْ مِنَ السَّعِيرِ بِمُفَارَقَةِ مَنْ عُدِمَ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ. فَحُصُولُ السَّمْعِ الْحَقِيقِيِّ: مَبْدَأٌ لِظُهُورِ آثَارِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْحَيَاةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. فَإِنَّ بِهَا يَحْصُلُ غِذَاءُ الْقَلْبِ وَيَعْتَدِلُ. فَتَتِمُّ قُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ، وَسُرُورُهُ وَنَعِيمُهُ، وَبَهْجَتُهُ. وَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ الصَّالِحَ: احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِغِذَاءٍ قَبِيحٍ خَبِيثٍ. وَإِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ: خَبُثَ وَنَقَصَ مِنْ حَيَاتِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُرُورِهِ وَنَعِيمِهِ بِحَسَبِ مَا فَسَدَ مِنْ غِذَائِهِ، كَالْبَدَنِ إِذَا فَسَدَ غِذَاؤُهُ نَقَصَ. فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ السَّمْعِ الظَّاهِرِ الْحِسِّيَّ بِالْقَلْبِ أَشَدَّ، وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أَقْرَبَ مِنَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْبَصَرِ وَبَيْنَهُ. وَلِذَلِكَ يُؤَدِّي آثَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِ الظَّاهِرِ إِلَى الْقَلْبِ أَسْرَعَ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَيْهِ آثَارُ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا رُبَّمَا غُشِيَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا سَمِعَ كَلَامًا يَسُرُّهُ أَوْ يَسُوءُهُ. أَوْ صَوْتًا لَذِيذًا طَيِّبًا مُطْرِبًا مُنَاسِبًا. وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ. وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ شَدِيدَ التَّأْثِيرِ فِي الْقَلْبِ. وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ، لِاشْتِعَالِهِ بِغَيْرِهِ، وَلِمُبَايَنَةِ ظَاهِرِهِ لِبَاطِنِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ تَجَرُّدٍ وَرِيَاضَةٍ: ظَهَرَتْ قُوَّةُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَالتَّأَثُّرِ. فَكُلَّمَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَالْقَلْبُ، وَانْقَطَعَتَا عَنْ عَلَائِقِ الْبَدَنِ، كَانَ حَظُّهُمَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ أَوْفَى، وَتَأَثُّرُهُمَا بِهِ أَقْوَى. فَإِنْ كَانَ الْمَسْمُوعُ مَعْنًى شَرِيفًا بِصَوْتٍ لَذِيذٍ: حَصَلَ لِلْقَلْبِ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَعْنَى، وَابْتَهَجَ بِهِ أَتَمَّ ابْتِهَاجٍ عَلَى حَسَبِ إِدْرَاكِهِ لَهُ. وَلِلرُّوحِ حَظُّهَا وَنَصِيبُهَا مِنْ لَذَّةِ الصَّوْتِ وَنَغَمَتِهِ وَحُسْنِهِ. فَابْتَهَجَتْ بِهِ. فَتَتَضَاعَفُ اللَّذَّةُ. وَيَتِمُّ الِابْتِهَاجُ. وَيَحْصُلُ الِارْتِيَاحُ. حَتَّى رُبَّمَا فَاضَ عَلَى الْبَدَنِ وَالْجَوَارِحِ. وَعَلَى الْجَلِيسِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ عَلَى الْكَمَالِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ. فَإِذَا تَجَرَّدَتِ الرُّوحُ وَكَانَتْ مُسْتَعِدَّةً. وَبَاشَرَ الْقَلْبَ رُوحُ الْمَعْنَى. وَأَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْمَسْمُوعِ. فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَسَاعَدَهُ طِيبُ صَوْتِ الْقَارِئِ: كَادَ الْقَلْبُ يُفَارِقُ هَذَا الْعَالَمَ. وَيَلِجُ عَالَمًا آخَرَ. وَيَجِدُ لَهُ لَذَّةً وَحَالَةً لَا يَعْهَدُهَا فِي شَيْءٍ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ رَقِيقَةٌ مِنْ حَالَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. فَيَا لَهُ مِنْ غِذَاءٍ مَا أَصْلَحَهُ وَمَا أَنْفَعَهُ. وَحَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ قَدْ تَرَبَّى عَلَى غِذَاءِ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ: أَنْ يَجِدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ. بَلْ إِنْ حَصَلَ لَهُ نَوْعُ لَذَّةٍ. فَهُوَ مِنْ قِبَلِ الصَّوْتِ الْمُشْتَرَكِ. لَا مِنْ قِبَلِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ. وَلَيْسَ فِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَعْلَى مِنْ رُؤْيَتِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ مَحْبُوبِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِيَانًا، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ. وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَثَرًا- لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ أَوْ مَرْفُوعٌ- إِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِشَيْءٍ، وَارْتَفَعَتِ الْمُبَايَنَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ: أَدَّتِ الْأُذُنُ إِلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَسْمُوعِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَسْمُوعُ. وَلَا قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ. وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى مَعْنًى. بَلْ قَدْ يَقَعُ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُجَرَّدَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَرَجُلٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرَةٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَتَدْرِي إِيشُ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكَرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. كَمَا سَمِعَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ مِنَ الْمُنَادِي: يَا سَعْتَرْ بَرِّي: اسْعَ تَرَ بِرِّي. وَهَذَا السَّمَاعُ الرَّوْحَانِيُّ تَبَعٌ لِحَقِيقَةِ الْقَلْبِ وَمَادَّتِهِ مِنْهُ، فَالِاتِّحَادُ بِهِ يَظُنُّ بِهِ السَّامِعُ: أَنَّهُ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ مِنَ الصَّوْتِ الْخَارِجِيِّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّحَادُ السَّمْعِ بِالْقَلْبِ. وَأَكْمَلُ السَّمَاعِ: سَمَاعُ مَنْ يَسْمَعُ بِاللَّهِ مَا هُوَ مَسْمُوعٌ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُهُ. وَهُوَ سَمَاعُ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ. وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ. وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا. وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. فَبِي يَسْمَعُ. وَبِي يُبْصِرُ. وَبِي يَبْطِشُ. وَبِي يَمْشِي. وَالْقَلْبُ يَتَأَثَّرُ بِالسَّمَاعِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ. فَإِذَا امْتَلَأَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَسَمْعِ كَلَامِ مَحْبُوبِهِ- أَيْ بِمُصَاحَبَتِهِ وَحُضُورِهِ فِي قَلْبِهِ- فَلَهُ مِنْ سَمَاعِهِ هَذَا شَأْنٌ. وَلِغَيْرِهِ شَأْنٌ آخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَحَدُهُمَا: مَنِ اتَّصَفَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِ نَفْسِهِ. بِحَيْثُ صَارَ قَلْبُهُ نَفْسًا مَحْضَةً. فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ آفَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَدَعَوَاتُ الْهَوَى. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ: كَحَظِّ الْبَهَائِمِ. لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً. وَالْفَرْقُ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ: غَيْرُ طَائِلٍ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِصِفَاتِ قَلْبِهِ. فَصَارَتْ نَفْسُهُ قَلْبًا مَحْضًا. فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَالْعَقْلُ وَاللُّبُّ. وَعَشِقَ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَاسْتَنَارَتْ نَفْسُهُ بِنُورِ الْقَلْبِ. وَاطْمَأَنَّتْ إِلَى رَبِّهَا. وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَصَارَ نَعِيمُهَا فِي حُبِّهِ وَقُرْبِهِ. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ مِثْلُ- أَوْ قَرِيبٌ مِنْ- حَظِّ الْمَلَائِكَةِ. وَسَمَاعُهُ غِذَاءُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَقُرَّةُ عَيْنِهِ وَنَعِيمُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَرِيَاضُهُ الَّتِي يَسْرَحُ فِيهَا. وَحَيَاتُهُ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَصَدَ أَرْبَابُ سَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالْأَبْيَاتِ. وَلَكِنْ أَخْطَأُوا الطَّرِيقَ وَأَخَذُوا عَنِ الدَّرْبِ شِمَالًا وَوَرَاءً. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ. وَقَلْبُهُ بَاقٍ عَلَى فِطْرَتِهِ الْأُولَى. وَلَكِنْ مَا تَصَرَّفَ فِي نَفْسِهِ تَصَرُّفًا أَحَالَهَا إِلَيْهِ. وَأَزَالَ بِهِ رُسُومَهُ. وَجَلَا عَنْهُ ظُلْمَتَهَا. وَلَا قَوِيَتِ النَّفْسُ عَلَى الْقَلْبِ بِإِحَالَتِهِ إِلَيْهَا. وَتَصَرَّفَتْ فِيهِ تَصَرُّفًا أَزَالَتْ عَنْهُ نُورَهُ وَصِحَّتَهُ وَفِطْرَتَهُ. فَبَيْنَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ مُنَازَلَاتٌ وَوَقَائِعُ، وَالْحَرْبُ بَيْنَهُمَا دُوَلٌ وَسِجَالٌ، تُدَالُ النَّفْسُ عَلَيْهِ تَارَةً، وَيُدَالُ عَلَيْهَا تَارَةً. فَهَذَا حَظُّهُ مِنَ السَّمَاعِ: حَظٌّ بَيْنَ الْحَظَّيْنِ، وَنُصِيبُهُ مِنْهُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ، فَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ الْقَلْبِ: كَانَ حَظُّهُ مِنْهُ قَوِيًّا. وَإِنْ صَادَفَهُ وَقْتُ دَوْلَةِ النَّفْسِ: كَانَ ضَعِيفًا. وَمِنْ هَاهُنَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْفِقْهِ عَنِ اللَّهِ. وَالْفَهْمِ عَنْهُ. وَالِابْتِهَاجُ وَالنَّعِيمُ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ. وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ- فِي حَالِ سَمَاعِهِ- يَشْتَغِلُ الْقَلْبُ بِالْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْسِ، فَيَفُوتُهُ مِنْ رُوحِ الْمَسْمُوعِ وَنَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ بِحَسَبِ اشْتِغَالِهِ عَنْهُ بِالْمُحَارَبَةِ. وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى حُصُولِ ذَلِكَ بِتَمَامِهِ، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. وَرُبَّمَا صَادَفَهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ وَارِدُ حُقٍّ، أَوِ الظَّفَرُ بِمَعْنًى بَدِيعٍ لَا يَقْدِرُ فِكْرُهُ عَلَى صَيْدِهِ كُلَّ وَقْتٍ. فَيَغِيبُ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ فِيهِ عَمَّا يَأْتِي بَعْدَهُ. فَيَعْجِزُ عَنْ صَيْدِ تِلْكَ الْمَعَانِي. وَيُدْهِشُهُ ازْدِحَامُهَا. فَيَبْقَى قَلْبُهُ بَاهِتًا. كَمَا يُحْكَى أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ: أَرْسَلَ صَائِدًا لَهُ عَلَى صَيْدٍ. فَخَرَجَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ وَخَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَوَقَفَ بَاهِتًا يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا. وَلَمْ يَصْطَدْ شَيْئًا. فَقَالَ: تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ *** فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ فَوَظِيفَتُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ: أَنْ يَفْنَى عَنْ وَارِدِهِ. وَيُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِالْمُتَكَلِّمِ. وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنْهُ. وَيَجْعَلَ قَلْبَهُ نَهْرًا لِجَرَيَانِ مَعَانِيهِ. وَيُفْرِغَهُ مِنْ سِوَى فَهْمِ الْمُرَادِ. وَيَنْصَبَّ إِلَيْهِ انْصِبَابًا يَتَلَقَّى فِيهِ مَعَانِيَهُ، كَتَلَقِّي الْمُحِبِّ لِلْأَحْبَابِ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِ. لَا يَشْغَلُهُ حَبِيبٌ مِنْهُمْ عَنْ حَبِيبٍ. بَلْ يُعْطَى كُلُّ قَادِمٍ حَقَّهُ. وَكَتَلَقِّي الضُّيُوفِ وَالزُّوَّارِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ سَعَةِ الْقَلْبِ، وَقُوَّةِ الِاسْتِعْدَادِ، وَكَمَالِ الْحُضُورِ. فَإِذَا سَمِعَ خِطَابَ التَّرْغِيبِ وَالتَّشْوِيقِ، وَاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ: لَا يَفْنَى بِهِ عَمَّا يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ خِطَابِ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْعَدْلِ. بَلْ يَسْمَعُ الْخِطَابَ الثَّانِيَ مُسْتَصْحِبًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ. وَيَمْزُجُ هَذَا بِهَذَا. وَيَسِيرُ بِهِمَا وَمَعَهُمَا جَمِيعًا، عَاكِفًا بِقَلْبِهِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي اللَّهِ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَسِيرِ إِلَيْهِ. وَلَا يَنْقَطِعُ بِذَلِكَ سَيْرُهُ إِلَيْهِ. بَلْ يُدْرِجُ سَيْرَهُ. فَإِنَّ سَيْرَ الْقَلْبِ فِي مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَمَتَّى بَقِيَتْ لِلْقَلْبِ فِي ذَلِكَ مَلَكَةٌ، وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهُ بِهِ: لَمْ تَحْجُبْهُ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَصِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلَكِنْ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَفِي التَّوَسُّطِ يَهُونُ عَلَيْهِ، وَلَا انْتِهَاءَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ تُشِيرُ إِلَى مَعَانِي سَمَاعِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ، وَالْأَحْوَالِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَأَمَّا السَّمَاعُ الشَّيْطَانِيُّ: فَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَفْسَدَةٍ. وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَسُقْنَاهَا مُفَصَّلَةً. وَسَنُفْرِدُ لَهَا مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مِنَ الْأُنْسِ بِالشَّوَاهِدِ: التَّغَذِّيَ بِالسَّمَاعِ. وَقَوْلِهِ: وَالْوُقُوفُ عَلَى الْإِشَارَاتِ. الْإِشَارَاتُ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ بُعْدٍ، وَمِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ مَسْمُوعٍ. وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَرْئِيٍّ. وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ مَعْقُولٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْحَوَاسِّ كُلِّهَا. فَالْإِشَارَاتُ: مِنْ جِنْسِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَعْلَامِ. وَسَبَبُهَا: صَفَاءٌ يَحْصُلُ بِالْجَمْعِيَّةِ. فَيَلْطُفُ بِهِ الْحِسُّ وَالذِّهْنُ. فَيَسْتَيْقِظُ لِإِدْرَاكِ أُمُورٍ لَطِيفَةٍ. لَا يَكْشِفُ حِسُّ غَيْرِهِ وَفَهْمِهِ عَنْ إِدْرَاكِهَا. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ: الصَّحِيحُ مِنْهَا: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِإِشَارَتِهِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْأَوْلَى. قُلْتُ: مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}. قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الصُّحُفُ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. مِنْهَا: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَكْنُونٌ وَالْمَكْنُونُ: الْمَسْتُورُ عَنِ الْعُيُونِ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الصُّحُفِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَوْ أَرَادَ الْمُتَوَضِّئِينَ لَقَالَ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُتَطَهِّرُونَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فَالْمَلَائِكَةُ مُطَهَّرُونَ. وَالْمُؤْمِنُونَ مُتَطَهِّرُونَ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ. وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لَقَالَ: لَا يَمْسَسْهُ بِالْجَزْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْخَبَرِ: أَنْ يَكُونَ خَبَرًا صُورَةً وَمَعْنًى. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا تَنَالُهُ الشَّيَاطِينُ. وَلَا وُصُولَ لَهَا إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الشُّعَرَاءِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} وَإِنَّمَا تَنَالُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُطَهَّرَةُ. وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}. قَالَ مَالِكٌ فِي مَوَطَّئِهِ: أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أَنَّهَا مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مِنْ سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ. تَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَالرَّدَّ عَلَى الْكُفَّارِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ فَرْعٍ عَمَلِيٍّ. وَهُوَ حُكْمُ مَسِّ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ: لَمْ يَكُنْ فِي الْإِقْسَامِ عَلَى ذَلِكَ بِهَذَا الْقَسَمِ الْعَظِيمِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِأَنَّ يَكُونَ فِي كِتَابٍ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا. بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى أَنَّهُ فِي كِتَابٍ مَصُونٍ، مَسْتُورٍ عَنِ الْعُيُونِ عِنْدَ اللَّهِ. لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْطَانٌ. وَلَا يَنَالُ مِنْهُ. وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْأَرْوَاحُ الطَّاهِرَةُ الزَّكِيَّةُ. فَهَذَا الْمَعْنَى أَلْيَقُ وَأَجَلُّ وَأَخْلَقُ بِالْآيَةِ وَأَوْلَى بِلَا شَكٍّ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ: لَكِنْ تَدُلُّ الْآيَةَ بِإِشَارَتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفُ إِلَّا طَاهِرٌ. لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الصُّحُفُ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهِّرُونَ، لِكَرَامَتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهَذِهِ الصُّحُفُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمَسَّهَا إِلَّا طَاهِرٌ. وَسَمِعَتْهُ يَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمَخْلُوقُونَ يَمْنَعُهَا الْكَلْبُ وَالصُّورَةُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ. فَكَيْفَ تَلِجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَحَبَّتُهُ وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ، فِي قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ بِكِلَابِ الشَّهَوَاتِ وَصُوَرِهَا؟ فَهَذَا مِنْ إِشَارَةِ اللَّفْظِ الصَّحِيحَةِ. وَمِنْ هَذَا: أَنَّ طَهَارَةَ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَالْبَدَنِ إِذَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِدَادِ بِهَا. فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا كَانَتْ فَاسِدَةً. فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقَلْبُ نَجِسًا، وَلَمْ يُطَهِّرْهُ صَاحِبُهُ؟ فَكَيْفَ يُعْتَدُّ لَهُ بِصَلَاتِهِ، وَإِنْ أَسْقَطْتِ الْقَضَاءَ؟ وَهَلْ طَهَارَةُ الظَّاهِرِ إِلَّا تَكْمِيلٌ لِطَهَارَةِ الْبَاطِنِ؟. وَمِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وَهِيَ بَيْتُ الرَّبِّ. فَتَوَجُّهُ الْمُصَلَّى إِلَيْهَا بِبَدَنِهِ وَقَالَبِهِ شَرْطٌ. فَكَيْفَ تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ بِقَلْبِهِ إِلَى رَبِّ الْقِبْلَةِ وَالْبَدَنِ؟ بَلْ وَجَّهَ بَدَنَهُ إِلَى الْبَيْتِ. وَوَجَّهَ قَلْبَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّ الْبَيْتِ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْإِشَارَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِصَفَاءِ الْبَاطِنِ، وَصِحَّةِ الْبَصِيرَةِ، وَحُسْنِ التَّأَمُّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْأُنْسُ بِنُورِ الْكَشْفِ. وَهُوَ أَنَسٌ شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ. تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيْمَانِ. وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ وَسَلَبَ قَوْمًا طَاقَةَ الِاصْطِبَارِ. وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ. وَفِي هَذَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: أَسْأَلُكُ شَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِ الْكَشْفِ. بَاءَ السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ. فَإِنْ كَانَتْ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ: كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ نُورِ الْكَشْفِ. وَإِنْ كَانَتْ بَاءَ الْإِلْصَاقِ، كَانَ الْمَعْنَى: الْأُنْسَ الْمُتَلَبِّسَ بِنُورِ الْكَشْفِ. فَإِنْ قُلْتُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُنْسِ، وَنُورِ الْكَشْفِ، حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِلْآخَرِ، أَوْ مُتَلَبِّسًا بِهِ؟. قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نُورَ الْكَشْفِ مِنْ بَابِ الْمَعَارِفِ وَانْكِشَافِ الْحَقِيقَةِ لِلْقَلْبِ. وَأَمَّا الْأُنْسُ: فَمِنْ بَابِ الْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ، وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ يَأْنَسُ بِهِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ. فَضِدَّهُ: الْوَحْشَةُ. وَضِدَّ نُورِ الْكَشْفِ: ظُلْمَةُ الْحِجَابِ. وَقَوْلُهُ: شَاخِصٌ عَنِ الْأُنْسِ الْأَوَّلِ. أَيْ مُرْتَفِعٌ عَنْهُ وَأَعْلَى مِنْهُ. قَوْلُهُ: تَشُوبُهُ صَوْلَةُ الْهَيَمَانِ. وَذَلِكَ: لِأَنَّ هَذَا الْأُنْسَ الْمَذْكُورَ يَكُونُ مَبْدَؤُهُ الْكَشْفَ عَنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ عَنْهَا الْأُنْسُ. وَيَتَعَلَّقُ بِهَا. كَاسْمِ الْجَمِيلِ، وَالْبَرِّ، وَاللَّطِيفِ، وَالْوَدُودِ، وَالْحَلِيمِ، وَالرَّحِيمِ وَنَحْوِهَا. ثُمَّ يَقْوَى التَّعَلُّقُ بِهَا إِلَى أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْعَقْلَ، فَيُمَازِجَهُ نَوْعٌ مِنَ الْأَسْمَاءِ. فَيَقْهَرَ الْعَقْلَ بِصَوْلَتِهِ. وَالْهَيَمَانُ هُوَ الْحَرَكَةُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ بِسَبَبِ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ نَوْعِ عَدَمِ تَمْيِيزٍ. وَقُوَّةِ إِرَادَةٍ قَاهِرَةٍ، لَا يَمْلِكُ صَاحِبُهَا ضَبْطَهَا. وَقَوْلُهُ: وَيَضْرِبُهُ مَوْجُ الْفَنَاءِ. أَيْ إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْأُنْسِ: يُطَالِعُ مَبَادِئَ الْفَنَاءِ مُحِيطَةً بِهِ. فَهِيَ تُقَلِّبُهُ كَمَا يَقْلِبُ الْمَوْجُ الْغَرِيقَ. وَهَذَا قَبْلَ اسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْفَنَاءِ عَلَى وُجُودِهِ. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ أَيْ سَلَبَهُمْ إِيَّاهَا. لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَيْئًا فَوْقَ مَدَارِكِ الْعُقُولِ. وَفَوْقَ كُلَّ مُدْرَكٍ بِالْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَلَا إِلْفَ لَهُمْ بِهِ. فَأَوْجَبَتْ قُوَّةُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْوَارِدِ، وَضَعْفُ الْمَحَلِّ وَالْحَامِلِ: غَلَبَتَهُ عَلَى الْعَقْلِ. وَالْكَامِلُ مِنَ الْقَوْمِ يَثْبُتُ لِذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ. بَلْ يَبْقَى كَأَنَّهُ جَبَلٌ. وَتَلَا الْجُنَيْدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ- وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَمَا يُغَيِّرُكَ مَا تَسْمَعُ؟ فَتَلَا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}. وَبَعْضُهُمْ تَلَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}. وَقَوْمٌ أَقْوَى تَمْكِينًا مِنْ هَؤُلَاءِ: لَمْ يَغْلِبْهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ بَلْ سَلْبَهُمْ طَاقَةُ صَبْرِهِمْ. فَبَدَا مِنْهُمْ مَا يُنَافِي الصَّبْرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَلَّ عَنْهُمْ قُيُودَ الْعِلْمِ. فَكَلَامٌ لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَتُكَلُّفِ وَجْهٍ يُصَحِّحُهُ. وَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْعِلْمَ يُقَيِّدُ صَاحِبَهُ. وَالْمَعْرِفَةَ تُطْلِقُهُ. وَتُوَسِّعُ بِطَانَهُ وَتُرِيهِ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ. فَتَزُولُ عَنْهُ التَّقَيُّدَاتُ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ الْمَعْرِفَةِ وَكَشْفِهَا عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَارِفَ صَاحِبُ ضِيَاءِ الْكَشْفِ أَوْسَعُ بِطَانًا وَقَلْبًا. وَأَعْظَمُ إِطْلَاقًا بِلَا شَكٍّ مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ صَاحِبِ الْعِلْمِ إِلَى الْجَاهِلِ. فَكَمَا أَنَّ الْعَالِمَ أَوْسَعُ بِطَانًا مِنَ الْجَاهِلِ. وَلَهُ إِطْلَاقٌ بِحَسَبِ عِلْمِهِ فَالْعَارِفُ- بِمَا مَعَهُ مِنْ رُوحِ الْعِلْمِ. وَضِيَاءِ الْكَشْفِ وَنُورِهِ- هُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقًا. وَأَوْسَعُ بِطَانًا مِنْ صَاحِبِ الْعِلْمِ. فَيَتَقَيَّدُ الْعَالِمُ بِظَوَاهِرِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ. وَالْعَارِفُ لَا يَرَاهَا قُيُودًا. وَمِنْ هَاهُنَا تَزَنْدَقَ مَنْ تَزَنْدَقَ. وَظَنَّ أَنَّهُ إِذَا لَاحَتْ لَهُ حَقَائِقُهَا، وَبَوَاطِنُهَا: خَلَعَ قُيُودَ ظَوَاهِرِهَا وَرُسُومِهَا، اشْتِغَالًا بِالْمَقْصُودِ عَنِ الْوَسِيلَةِ. وَبِالْحَقِيقَةِ عَنِ الرَّسْمِ. فَهَؤُلَاءُ هُمُ الْمَقْطُوعُونَ عَنِ اللَّهِ، الْقُطَّاعُ لِطَرِيقِ اللَّهِ. وَهُمْ مَعَاطِبُ الطَّرِيقِ وَآفَاتُهَا. وَاتَّفَقَ أَنَّ الْعَارِفِينَ تَكَلَّمُوا فِي الْحَقَائِقِ. وَأَمَرُوا بِالِانْتِقَالِ مِنَ الرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ إِلَيْهَا، وَأَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَهَا. فَظَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ: أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خَلْعَهَا، وَالِانْحِلَالَ مِنْهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ: فَهُوَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ يَرْكُمُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ. أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. فَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": أَشَارَ إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِّ الصَّحِيحِ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ شُيُوخُ الْقَوْمِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ فَلَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ. فَأَيْنَ طَلَبُ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، الْبَاعِثُ عَلَى كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ، وَعَلَى خِفَّةِ أَعْبَاءِ السَّيْرِ، وَالْمُزِيلُ لِكُلِّ فُتُورٍ، وَالْحَامِلُ عَلَى كُلِّ صِدْقٍ، وَإِخْلَاصٍ وَإِنَابَةٍ. وَصِحَّةِ مُعَامَلَةٍ- إِلَى أَمْرٍ مَشُوبٍ بِصَوْلَةِ الْهَيَمَانِ. تَضْرِبُهُ أَمْوَاجُ الْفَنَاءِ، بِحَيْثُ غَلَبَ قَوْمًا عَلَى عُقُولِهِمْ، وَسَلَبَ قَوْمًا صَبْرَهُمْ بِحَيْثُ صَيَّرَهُمْ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ؟. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَ حَالَةَ الْفَنَاءِ قَطُّ. وَإِنَّمَا سَأَلَ شَوْقًا مُوجِبًا لِلْبَقَاءِ، مُصَاحِبًا لَهُ. مُوجِبًا لَهُ طَيِّبُ الْحَيَاةِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَبَهْجَةُ الرُّوحِ. وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اشْتِيَاقَهُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ عَلَى عَقْلٍ، وَلَا فَقْدٍ لِاصْطِبَارٍ. وَلِهَذَا قَالَ: مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَهِيَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَهِيَ مُفَارَقَةُ أَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهَذَا غَايَتُهُ: أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْحَدِيثِ عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ الْمُرَادِ: فَلَا. وَإِنَّمَا الْمَسْئُولُ: أَنْ يَهَبَ لَهُ شَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ. مُصَاحِبًا لِلْعَافِيَةِ، وَالْهِدَايَةِ. فَلَا تَصْحَبُهُ فِتْنَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ. وَهَذَا مِنْ أَجَلِّ الْعَطَايَا وَالْمَوَاهِبِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُ هَذَا لَا يَنَالُهُ إِلَّا بَعْدَ امْتِحَانٍ وَاخْتِبَارٍ: هَلْ يَصْلُحُ أَمْ لَا؟ وَمَنْ لَمْ يُمْتَحَنْ وَلَمْ يُخْتَبَرْ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُؤَهَّلْ لِهَذَا. فَتَضَمَّنَ هَذَا الدُّعَاءُ: حُصُولَ ذَلِكَ. وَالتَّأْهِيلَ لَهُ، مَعَ كَمَالِ الْعَافِيَةِ بِلَا مِحْنَةٍ، وَالْهِدَايَةَ بِلَا فِتْنَةٍ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أُنْسُ اضْمِحْلَالٍ فِي شُهُودِ الْحَضْرَةِ. لَا يُعَبَّرُ عَنْ غَيْبِهِ، وَلَا يُشَارُ إِلَى حَدِّهِ. وَلَا يُوقَفُ عَلَى كُنْهِهِ. الِاضْمِحْلَالُ: الِانْعِدَامُ. وَشُهُودُ الْحَضْرَةِ هُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَقِيقَةِ. وَالْفَنَاءُ فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ. قَوْلُهُ: وَلَا يُعَبَّرُ عَنْ غَيْبِهِ إِلَى آخِرِهِ. حَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْعِبَارَةِ. لَا تَنَالُهُ الْعِبَارَةُ. وَلَا يُحَاطُ بِهِ عَيْنًا. وَلَا حَدًّا. وَلَا كُنْهًا. وَلَا حَقِيقَةً. فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: تَسْتَغْرِقُ الْعِبَارَةَ، وَالْإِشَارَةَ، وَالدَّلَالَةَ وَفِي وَصْفِهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: فَأَلْقَوْا حِبَالَ مَرَاسِيهِمْ *** فَغَطَّاهُمُ الْبَحْرُ. ثُمَّ انْطَبَقَ وَهَاهُنَا إِنَّمَا حِوَالَةُ الْقَوْمِ عَلَى الذَّوْقِ. وَإِشَارَتُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ الَّذِي يَصْطَلِمُ الْمُشِيرَ وَإِشَارَتَهُ، وَالْمَعْبِّرَ وَعِبَارَتَهُ، مَعَ ظُهُورِ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْإِشَارَةِ، وَالْعِبَارَةِ، وَالدَّلَالَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْكُبْرَى الَّتِي مِنْهَا يَتَزَوَّدُونَ وَفِيهَا يَتَّجِرُونَ، وَإِلَيْهَا دَائِمًا يَتَرَدَّدُونَ. وَالذِّكْرُ مَنْشُورُ الْوِلَايَةِ الَّذِي مِنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ وَمَنْ مُنِعَهُ عُزِلَ، وَهُوَ قُوتُ قُلُوبِ الْقَوْمِ الَّذِي مَتَى فَارَقَهَا صَارَتِ الْأَجْسَادُ لَهَا قُبُورًا، وَعِمَارَةُ دِيَارِهِمُ الَّتِي إِذَا تَعَطَّلَتْ عَنْهُ صَارَتْ بُورًا، وَهُوَ سِلَاحُهُمُ الَّذِي يُقَاتِلُونَ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ، وَمَاؤُهُمُ الَّذِي يُطْفِئُونَ بِهِ الْتِهَابَ الطَّرِيقِ وَدَوَاءُ أَسْقَامِهِمُ الَّذِي مَتَى فَارَقَهُمُ انْتَكَسَتْ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ وَالْعَلَاقَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ. إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوِينَا بِذِكْرِكُمُ *** فَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ بِهِ يَسْتَدْفِعُونَ الْآفَاتِ وَيَسْتَكْشِفُونَ الْكُرُبَاتِ وَتَهُونُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْمُصِيبَاتُ، إِذَا أَظَلَّهُمُ الْبَلَاءُ فَإِلَيْهِ مَلْجَؤُهُمْ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمُ النَّوَازِلُ فَإِلَيْهِ مَفْزَعَهُمْ. فَهُوَ رِيَاضُ جَنَّتِهِمُ الَّتِي فِيهَا يَتَقَلَّبُونَ وَرُءُوسُ أَمْوَالِ سَعَادَتِهِمُ الَّتِي بِهَا يَتَّجِرُونَ. يَدَعُ الْقَلْبَ الْحَزِينَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا، وَيُوصِّلُ الذَّاكِرَ إِلَى الْمَذْكُورِ، بَلْ يَدَعُ الذَّاكِرَ مَذْكُورًا. وَفِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنَ الْجَوَارِحِ عُبُودِيَّةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالذِّكْرُ عُبُودِيَّةُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، بَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِذِكْرِ مَعْبُودِهِمْ وَمَحْبُوبِهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ. فَكَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ قِيعَانٌ وَهُوَ غِرَاسُهَا، فَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ بُورٌ وَخَرَابٌ وَهُوَ عِمَارَتُهَا وَأَسَاسُهَا. وَهُوَ جَلَاءُ الْقُلُوبِ وَصِقَالُهَا وَدَوَاؤُهَا إِذَا غَشِيَهَا اعْتِلَالُهَا، وَكُلَّمَا ازْدَادَ الذَّاكِرُ فِي ذِكْرِهِ اسْتِغْرَاقًا: ازْدَادَ الْمَذْكُورُ مَحَبَّةً إِلَى لِقَائِهِ وَاشْتِيَاقًا، وَإِذَا وَاطَأَ فِي ذِكْرِهِ قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ: نَسِيَ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ كُلَّ شَيْءٍ وَحَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ وَكَانَ لَهُ عِوَضًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. بِهِ يَزُولُ الْوَقْرُ عَنِ الْأَسْمَاعِ وَالْبَكَمُ عَنِ الْأَلْسُنِ وَتَنْقَشِعُ الظُّلْمَةُ عَنِ الْأَبْصَارِ. زَيَّنَ اللَّهُ بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ: كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. وَهُوَ بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَفَقَّدُوا الْحَلَاوَةَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي الصَّلَاةِ وَفِي الذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ. وَبِالذِّكْرِ: يَصْرُعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا تَمَكَّنَ الذِّكْرُ مِنَ الْقَلْبِ فَإِنْ دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ صَرَعَهُ كَمَا يَصْرَعُ الْإِنْسَانُ إِذَا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُونَ: مَا لِهَذَا؟ فَيُقَالُ: قَدْ مَسَّهُ الْإِنْسِيُّ. وَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا خَلَا الْعَمَلُ عَنِ الذِّكْرِ كَانَ كَالْجَسَدِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا. الثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. الثَّالِثُ: تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ. الرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَالْإِخْبَارُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ. الْخَامِسُ: الْإِخْبَارُ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنْهُ بِغَيْرِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذِكْرَهُ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ. السَّابِعُ: الْإِخْبَارُ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ خَاتِمَةَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا كَانَ مِفْتَاحَهَا. التَّاسِعُ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَهْلِهِ بِأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ جَعَلَهُ قَرِينَ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَرُوحَهَا، فَمَتَى عُدِمَتْهُ كَانَتْ كَالْجَسَدِ بِلَا رُوحٍ.
فَصْلٌ فِي تَفْصِيلِ أَوْجُهِ الذِّكْرِ فِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ: 1- أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} وقوله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}. وَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: فِي سِرِّكَ وَقَلْبِكَ، وَالثَّانِي: بِلِسَانِكَ بِحَيْثُ تُسْمِعُ نَفْسَكَ. 2- وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ: فَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} وقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}. 3- وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْفَلَاحِ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ: فَكَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. 4- وَأَمَّا الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَحُسْنُ جَزَائِهِمْ: فَكَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. 5- وَأَمَّا خُسْرَانُ مَنْ لَهَا عَنْهُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. 6- وَأَمَّا جَعْلُ ذِكْرِهِ لَهُمْ جَزَاءً لِذِكْرِهِمْ لَهُ فَكَقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. 7- وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ أَفْضَلُ الطَّاعَاتِ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالطَّاعَاتِ كُلِّهَا: إِقَامَةُ ذِكْرِهِ فَهُوَ سِرُّ الطَّاعَاتِ وَرُوحُهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ ذَكَرَكُمْ فَكَانَ ذِكْرُهُ لَكُمْ أَكْبَرَ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ. فَعَلَى هَذَا: الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ: مُضَافٌ إِلَى الْمَذْكُورِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ فَاحِشَةٌ وَمُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا تَمَّ الذِّكْرُ: مَحَقَ كُلَّ خَطِيئَةٍ وَمَعْصِيَةٍ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ فِي الصَّلَاةِ فَائِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: نَهْيُهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَالثَّانِيَةُ: اشْتِمَالُهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَتَضَمُّنِهَا لَهُ وَلَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ. 8- وَأَمَّا خَتْمُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِهِ: فَكَمَا خُتِمَ بِهِ عَمَلُ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وَخُتِمَ بِهِ الْحَجُّ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. وَخُتِمَ بِهِ الصَّلَاةُ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وَخُتِمَ بِهِ الْجُمُعَةُ كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَلِهَذَا كَانَ خَاتِمَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ آخِرَ كَلَامِ الْعَبْدِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ 9- وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الذَّاكِرِينَ بِالِانْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}. 10- وَأَمَّا مُصَاحَبَتُهُ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَاقْتِرَانُهُ بِهَا وَأَنَّهُ رُوحُهَا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَقَرَنَهُ بِالصِّيَامِ وَبِالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، بَلْ هُوَ رُوحُ الْحَجِّ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَقَرَنَهُ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِذِكْرِهِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْأَقْرَانِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ عَبْدِي- كُلَّ عَبْدِيَ- الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ. سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَسْتَشْهِدُ بِهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْمُحِبُّونَ يَفْتَخِرُونَ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّونَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا *** أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لُبَانِ الْأَدْهَمِ وَقَالَ الْآخَرُ: ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنَا *** وَقَدْ نَهَلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ قَالَ آخَرُ: وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ شَوَاجِرٌ *** تَحْوِي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَشْعَارِهِمْ وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ ذِكْرَ الْمُحِبِّ مَحْبُوبَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي لَا يَهُمُّ الْمَرْءَ فِيهَا غَيْرُ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَعَزُّ مِنْهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمَحَبَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالذَّاكِرُونَ فَضْلُهُمْ: هُمْ أَهْلُ السَّبْقِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ. قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَالْمُفَرِّدُونَ إِمَّا الْمُوَحِّدُونَ وَإِمَّا الْآحَادُ الْفُرَادَى وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَغَرَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَيَكْفِي فِي شَرَفِ الذِّكْرِ: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي مَلَائِكَتَهُ بِأَهْلِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ: خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسْنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنْ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي: أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ. وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. فَقَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ. وَقَالَ: اغْدُوَا وَرُوحُوا وَاذْكُرُوا، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ; فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَرَوَى النَّبِيُّ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّيَ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهَ فِيهِ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَجَعَلَ بَيْتَ الذَّاكِرِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْحَيِّ وَبَيْتَ الْغَافِلِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْقَبْرُ. وَفِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ: جَعَلَ الذَّاكِرَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ وَالْغَافِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، فَتَضَمَّنَ اللَّفْظَانِ: أَنَّ الْقَلْبَ الذَّاكِرَ كَالْحَيِّ فِي بُيُوتِ الْأَحْيَاءِ، وَالْغَافِلَ كَالْمَيِّتِ فِي بُيُوتِ الْأَمْوَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الْغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِمْ وَقُلُوبَهُمْ فِيهَا كَالْأَمْوَاتِ فِي الْقُبُورِ، كَمَا قِيلَ: فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ *** وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِهِمْ *** وَلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَكَمَا قِيلَ: فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللَّهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمْ *** وَأَجْسَامُهُمْ فَهْيَ الْقُبُورُ الدَّوَارِسُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ مِنْ حَبِيبِهِمْ *** وَلَكِنَّهَا عِنْدَ الْخَبِيثِ أَوَانِسُ وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى عَبْدِي ذِكْرِي: أَحَبَّنِي وَأَحْبَبْتُهُ. وَفِي آخَرَ: فَبِي فَافْرَحُوا وَبِذِكْرِي فَتَنَعَّمُوا. وَفِي آخَرَ: ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي! أَذْكُرُكَ وَتَنْسَانِي وَأَدْعُوكَ وَتَهْرُبُ إِلَى غَيْرِي، وَأُذْهِبُ عَنْكَ الْبَلَايَا وَأَنْتَ مُعْتَكِفٌ عَلَى الْخَطَايَا. يَا ابْنَ آدَمَ مَا تَقُولُ غَدًا إِذَا جِئْتَنِي؟. وَفِي آخَرَ: ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ: أَذْكُرْكَ حِينَ أَغْضَبُ، وَارْضَ بِنُصْرَتِي لَكَ فَإِنَّ نُصْرَتِي لَكَ خَيْرٌ مِنْ نُصْرَتِكَ لِنَفْسِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ فِي الْأَثَرِ الَّذِي يَرْوِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الذِّكْرِ نَحْوَ مِائَةِ فَائِدَةٍ فِي كِتَابِنَا " الْوَابِلُ الصَّيِّبُ وَرَافِعُ الْكَلِمِ الطَّيِّبُ " وَذَكَرَنَا هُنَاكَ أَسْرَارَ الذِّكْرِ وَعِظَمَ نَفْعِهِ وَطِيبَ ثَمَرَتِهِ وَذَكَرْنَا فِيهِ: أَنَّ الذِّكْرَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَعَانِيهَا، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهَا، وَتَوْحِيدِ اللَّهِ بِهَا. وَذِكْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَذِكْرُ الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ وَالْإِحْسَانِ وَالْأَيَادِي. وَأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَيْضًا: ذِكْرٌ يَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَهُوَ أَعْلَاهَا , وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ وَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} يَعْنِي: إِذَا نَسِيتَ غَيْرَهُ وَنَسِيتَ نَفْسَكَ فِي ذِكْرِكَ ثُمَّ نَسِيتَ ذِكْرَكَ فِي ذِكْرِهِ ثُمَّ نَسِيتَ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ كُلَّ ذِكْرٍ. لَيْتَهُ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- لَمْ يَقُلْ. فَلَا وَاللَّهِ مَا عَنَى اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ وَلَا تَفْسِيرُهَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَلَا مِنَ الْخَلَفِ. وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّكَ لَا تَقُلْ لِشَيْءٍ: أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَإِذَا نَسِيتَ أَنْ تَقُولَهَا فَقُلْهَا مَتَى ذَكَرْتَهَا. وَهَذَا هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَرَاخِي الَّذِي جَوَّزَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَهُوَ الصَّوَابُ. فَغَلِطَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ: نِسَائِيَ الْأَرْبَعُ طَوَالِقُ. ثُمَّ بَعْدَ سَنَةٍ يَقُولُ: إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ: إِلَّا زَيْنَبَ- إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَنْفَعُهُ. وَقَدْ صَانَ اللَّهُ عَنْ هَذَا مَنْ هُوَ دُونَ غِلْمَانِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكَثِيرٍ، فَضْلًا عَنِ الْبَحْرِ حَبْرِ الْأُمَّةِ وَعَالِمِهَا الَّذِي فَقَّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ وَعَلَّمَهُ التَّأْوِيلَ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَنْقُلُ النَّاسُ الْمَذَاهِبَ الْبَاطِلَةَ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِالْأَفْهَامِ الْقَاصِرَةِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ ذَلِكَ لَطَالَ جِدًّا وَإِنْ سَاعَدَ اللَّهُ أَفْرَدْنَا لَهُ كِتَابًا. وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا. وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَلَبَّثَ الْوَحْيُ أَيَّامًا ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَاسْتَثْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَيَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى سَنَةٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ؛ أَيْ إِذَا نَسِيتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّهَا مَتَى ذَكَرْتَهَا. وَأَمَّا كَلَامُ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِشَارَةِ لَا عَلَى التَّفْسِيرِ. فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ لِلذِّكْرِ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَنْسَى غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يَنْسَى نَفْسَهُ لِأَنَّهُ نَاسٍ لِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ نَاسِيًا إِلَّا وَنَفْسُهُ بَاقِيَةٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَاسٍ بِهَا لِمَا سِوَى الْمَذْكُورِ. الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ نَفْسِهِ فِي ذِكْرِهِ، وَهِيَ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: وَنَسِيتَ نَفْسَكَ فِي ذِكْرِكَ. وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: ذِكْرُهُ مَعَهُ لَمْ يُنْسِهِ. فَقَالَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ: ثُمَّ نَسِيتَ ذِكْرَكَ فِي ذِكْرِهِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْفَنَاءِ. ثُمَّ قَالَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: ثُمَّ نَسِيتَ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ كُلَّ ذِكْرٍ. وَهَذَا الْفَنَاءُ بِذِكْرِ الْحَقِّ عَبْدَهُ عَنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ. فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَهِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الذِّكْرِ وَهِيَ أَنْ تَنْسَى غَيْرَ الْمَذْكُورِ وَلَا تَنْسَى نَفْسَكَ فِي الذِّكْرِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ: لَمْ يَذْكُرْهُ بِتَمَامِ الذِّكْرِ إِذْ لِتَمَامِهِ مَرْتَبَتَانِ فَوْقَهُ: إِحْدَاهُمَا: نِسْيَانُ نَفْسِهِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فَيَغِيبُ بِذِكْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْدَمُ إِدْرَاكَهَا بِوِجْدَانِ الْمَذْكُورِ. الثَّانِيَةُ: نِسْيَانُ ذِكْرِهِ فِي ذِكْرِهِ، كَمَاسُئِلَ ذُو النُّونِ عَنِ الذِّكْرِ فَقَالَ: غَيْبَةُ الذَّاكِرِ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ أَنْشَدَ: لَا لِأَنِّي أَنْسَاكَ أُكْثِرُ ذِكْرَا كَ *** وَلَكِنْ بِذَاكَ يَجْرِي لِسَانِي وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ. فَفِي الْأُولَى: فَنِيَ عَمَّا سِوَى الْمَذْكُورِ وَلَمْ يَفْنَ عَنْ نَفْسِهِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ ذِكْرِهِ. وَفِي الثَّالِثَةِ: فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَذِكْرِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ هَذَا مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ: أَنْ يَفْنَى بِذِكْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَ اللَّهَ إِلَّا بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ لَهُ، فَذِكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ سَابِقٌ عَلَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ فَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ: يَشْهَدُ صِفَاتِ الْمَذْكُورِ سُبْحَانَهُ، وَذِكْرَهُ لِعَبْدِهِ، فَيَفْنَى بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ مَا مِنَ الْعَبْدِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ وِجْدَانَ الْمَذْكُورِ فِي الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ. فَإِنَّ الذَّاكِرَ وَذِكْرَهُ وَالْمَذْكُورَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: فَالذَّاكِرُ وَذِكْرُهُ قَدِ اضْمَحَلَّا وَفَنِيَا، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْمَذْكُورِ وَحْدَهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ سِوَاهُ، فَهُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ وَلَا اتِّحَادٍ. بَلِ الذِّكْرُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مَحْفُوفٌ بِذِكْرَيْنِ مِنْ رَبِّهِ لَهُ: ذِكْرٍ قَبْلَهُ بِهِ صَارَ الْعَبْدُ ذَاكِرًا لَهُ، وَذِكْرٍ بَعْدَهُ بِهِ صَارَ الْعَبْدُ مَذْكُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وقال فِيمَا يَرْوِي عَنْهُ نَبِيُّهُ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ. وَالذِّكْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لَهُ: نَوْعٌ غَيْرُ الذِّكْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِهِ قَبْلَ ذِكْرِهِ لَهُ، وَمَنْ كَثَّفَ فَهْمَهُ عَنْ هَذَا فَلْيُجَاوِزْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ *** وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ وَسَأَلْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَوْمًا فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَرْضَى بِطَاعَةِ الْعَبْدِ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ وَيَغْضَبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ الْمُحْدِثُ فِي الْقَدِيمِ حُبًّا وَبُغْضًا وَفَرَحًا وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لِيَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ أَسْبَابَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالْفَرَحِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّأَثُّرُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ مِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمُمْتَنِعُ أَنْ يُؤَثِّرَ غَيْرُهُ فِيهِ فَهَذَا مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنْ يَخْلُقَ هُوَ أَسْبَابًا وَيَشَاءَهَا وَيُقَدِّرَهَا تَقْتَضِي رِضَاهُ وَمَحَبَّتَهُ وَفَرَحَهُ وَغَضَبَهُ: فَهَذَا لَيْسَ بِمُحَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَالذِّكْرُ: هُوَ التَّخَلُّصُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ: أَنَّ الْغَفْلَةَ تَرْكٌ بِاخْتِيَارِ الْغَافِلِ، وَالنِّسْيَانَ تَرْكٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا تَكُنْ مِنَ النَّاسِينَ، فَإِنَّ النِّسْيَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَلَا يَنْهَى عَنْهُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، دَرَجَاتُ الذِّكْرِ الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الذِّكْرُ الظَّاهِرُ مِنْ: ثَنَاءٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ رِعَايَةٍ. يُرِيدُ بِالظَّاهِرِ: الْجَارِيَ عَلَى اللِّسَانِ الْمُطَابِقَ لِلْقَلْبِ، لَا مُجَرَّدَ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ، فَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَعْتَدُّونَ بِهِ. فَأَمَّا ذِكْرُ الثَّنَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ الظَّاهِرِ: فَنَحْوُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ , وَأَمَّا ذِكْرُ الدُّعَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ الظَّاهِرِ فَنَحْوُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ. وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَمَّا ذِكْرُ الرِّعَايَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ الظَّاهِرِ: فَمِثْلُ قَوْلِ الذَّاكِرِ: اللَّهُ مَعِي وَاللَّهُ نَاظِرٌ إِلَيَّ، اللَّهُ شَاهِدِي. وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ لِتَقْوِيَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَفِيهِ رِعَايَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْقَلْبِ وَلِحِفْظِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ. وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ تَجْمَعُ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالتَّعَرُّضِ لِلدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: كَيْفَ جَعَلَهَا دُعَاءً قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ يَرْجُو نَائِلَهُ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي *** حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا *** كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ فَهَذَا مَخْلُوقٌ وَاكْتَفَى مِنْ مَخْلُوقٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مِنْ سُؤَالِهِ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟. وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ مُتَضَمِّنَةٌ أَيْضًا لِكَمَالِ الرِّعَايَةِ وَمَصْلَحَةِ الْقَلْبِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْغَفْلَاتِ وَالِاعْتِصَامِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الذِّكْرُ الْخَفِيُّ وَهُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الْقُيُودِ وَالْبَقَاءُ مَعَ الشُّهُودِ وَلُزُومُ الْمُسَامَرَةِ. يُرِيدُ بِالْخَفِيِّ هَاهُنَا: الذِّكْرَ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ بِمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْوَارِدَاتِ، وَهَذَا ثَمَرَةُ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَيُرِيدُ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْقُيُودِ: التَّخَلُّصَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالْحُجُبِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَالْبَقَاءُ مَعَ الشُّهُودِ: مُلَازَمَةُ الْحُضُورِ مَعَ الْمَذْكُورِ وَمُشَاهَدَةُ الْقَلْبِ لَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَلُزُومُ الْمُسَامَرَةِ: هِيَ لُزُومُ مُنَاجَاةِ الْقَلْبِ لِرَبِّهِ: تَمَلُّقًا تَارَةً، وَتَضَرُّعًا تَارَةً، وَثَنَاءً تَارَةً، وَاسْتِعْظَامًا تَارَةً. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُنَاجَاةِ بِالسِّرِّ وَالْقَلْبِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلُّ مُحِبٍّ وَحَبِيبِهِ، كَمَا قِيلَ: إِذَا مَا خَلَوْنَا وَالرَّقِيبُ بِمَجْلِسٍ *** فَنَحْنُ سُكُوتٌ وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ، وَمَعْرِفَةُ افْتِرَاءِ الذَّاكِرِ فِي بَقَائِهِ مَعَ الذِّكْرِ. إِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ حَقِيقِيًّا; لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَمَّا نِسْبَةُ الذِّكْرِ لِلْعَبْدِ: فَلَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً. فَذِكْرُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هُوَ الذِّكْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ شُهُودُ ذِكْرِ الْحَقِّ عَبْدَهُ وَأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِيمَنِ اخْتَصَّهُ وَأَهَّلَهُ لِلْقُرْبِ مِنْهُ وَلِذِكْرِهِ. فَجَعَلَهُ ذَاكِرًا لَهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ الذَّاكِرُ لِنَفْسِهِ بِأَنْ جَعَلَ عَبْدَهُ ذَاكِرًا لَهُ وَأَهَّلَهُ لِذِكْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ *** وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ أَيْ هُوَ الَّذِي وَحَّدَ نَفْسَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتَوْحِيدُ الْعَبْدِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْعَبْدِ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ. إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَلَا مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَجْعُولٌ فِيهِ فَإِنْ سُمِّيَ مُوَحِّدًا ذَاكِرًا، فَلِكَوْنِهِ مَجْرَى وَمَحَلًّا لِمَا أُجْرِيَ فِيهِ، كَمَا يُسَمَّى أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا; لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهَا وَلَمْ تُوجِبْهَا مَشِيئَتُهُ وَلَا حَوْلُهُ وَلَا قُوَّتُهُ. هَذَا مَعَ مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْقُرْبِ وَالْفَنَاءِ عَنِ الرَّسْمِ وَالْغَيْبَةِ بِالْمَشْهُودِ عَنِ الشُّهُودِ وَقُوَّةِ الْوَارِدِ، فَيَتَرَكَّبُ مِنْ ذَلِكَ ذَوْقٌ خَاصٌّ: أَنَّهُ مَا وَحَدَّ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا ذَكَرَ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا أَحَبَّ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ. فَهَذَا حَقِيقَةُ مَا عِنْدَ الْقَوْمِ، فَالْعَارِفُونَ مِنْهُمْ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ أَعْطَوْا مَعَ ذَلِكَ الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا وَالْعِلْمَ حَقَّهُ وَعَرَفُوا أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالرَّبَّ رَبٌّ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَامُوا بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ بِاللَّهِ لَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِلَّهِ لَا لِحُظُوظِهِمْ وَفَنُوا بِمُشَاهَدَةِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَبِمَا لَهُ مَحَبَّةً وَرِضًا عَمَّا بِهِ كَوْنًا وَمَشِيئَةً. فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ بِهِ وَالَّذِي لَهُ: هُوَ مَحْبُوبُهُ وَمُرْضِيهِ، فَهُوَ لَهُ وَبِهِ، وَالْمُنْحَرِفُونَ فَنُوا بِمَا بِهِ عَمَّا لَهُ، فَوَالَوْا أَعْدَاءَهُ وَعَطَّلُوا دِينَهُ وَسَوَّوْا بَيْنَ مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: التَّخَلُّصُ مِنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ. يَعْنِي: بِفَنَاءِ شُهُودِ ذِكْرِهِ لَكَ عَنْ شُهُودِ ذِكْرِكَ لَهُ، وَهَذَا الشُّهُودُ يُرِيحُ الْعَبْدَ مِنْ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَمُلَاحَظَةِ الْعَمَلِ وَيُمِيتُهُ وَيُحْيِيهِ: يُمِيتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُحْيِيهِ بِرَبِّهِ وَيُفْنِيهِ وَيَقْتَطِعُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَيُوصِلُهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الظَّفَرِ بِالنَّفْسِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: انْتَهَى سَفَرُ الطَّالِبِينَ إِلَى الظَّفَرِ بِنُفُوسِهِمْ. قَوْلُهُ: وَمَعْرِفَةُ افْتِرَاءِ الذَّاكِرِ فِي بَقَائِهِ مَعَ الذِّكْرِ. يَعْنِي: أَنَّ الْبَاقِيَ مَعَ الذِّكْرِ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ ذَاكِرٌ، وَذَلِكَ افْتِرَاءٌ مِنْهُ; فَإِنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ. وَلَا يَزُولُ عَنْهُ هَذَا الِافْتِرَاءُ إِلَّا إِذَا فَنِيَ عَنْ ذِكْرِهِ فَإِنَّ شُهُودَ ذِكْرِهِ وَبَقَاءَهُ مَعَهُ افْتِرَاءٌ يَتَضَمَّنُ نِسْبَةَ الذِّكْرِ إِلَيْهِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ لَهُ. فَيُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيُّ افْتِرَاءٍ فِي هَذَا؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا شُهُودُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّهُ إِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ ذَاكِرًا بِجَعْلِ اللَّهِ لَهُ ذَاكِرًا وَتَأْهِيلِهِ لَهُ وَتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ لِلْعَبْدِ عَلَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لَهُ، فَاجْتَمَعَ فِي شُهُودِهِ الْأَمْرَانِ فَأَيُّ افْتِرَاءٍ هَاهُنَا؟! وَهَلْ هَذَا إِلَّا عَيْنُ الْحَقِّ وَشُهُودُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ؟. نَعَمِ الِافْتِرَاءُ: أَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ بِهِ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. لَكِنَّ الشَّيْخَ لَا تَأْخُذُهُ فِي الْفَنَاءِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يُصْغِي فِيهِ إِلَى عَاذِلٍ. وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّ الْبَقَاءَ فِي الذِّكْرِ أَكْمَلُ مِنَ الْفَنَاءِ فِيهِ وَالْغِيبَةِ بِهِ; لِمَا فِي الْبَقَاءِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْمَعَارِفِ وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالْعَبْدِ وَمَا قَامَ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَشُهُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ. وَلَيْسَ فِي الْفَنَاءِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَنَاءُ- كَاسْمِهِ- الْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ بَقَاءٌ كَاسْمِهِ، وَالْفَنَاءُ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ وَالْبَقَاءُ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ وَالْفِنَاءُ وَصْفُ الْعَبْدِ وَالْبَقَاءُ وَصْفُ الرَّبِّ. وَالْفَنَاءُ عَدَمٌ وَالْبَقَاءُ وُجُودٌ وَالْفَنَاءُ نَفْيٌ وَالْبَقَاءُ إِثْبَاتٌ وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ مُخْطِرٌ، وَكَمْ بِهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَمَهْلَكَةٍ، وَالسُّلُوكُ عَلَى دَرْبِ الْبَقَاءِ آمِنٌ; فَإِنَّهُ دَرِبَ عَلَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالْهُدَاةُ وَالْخُفَرَاءُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الْفَنَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ طَوِيلٌ وَلَا يَشُكُّونَ فِي سَلَامَتِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ دَرْبَ الْفَنَاءِ أَقْرَبُ وَرَاكِبَهُ طَائِرٌ وَرَاكِبَ دَرْبِ الْبَقَاءِ سَائِرٌ، وَالْكُمَّلُ مِنَ السَّائِرِينَ يَرَوْنَ الْفَنَاءَ مَنْزِلَةً مِنْ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ وَلَيْسَ نُزُولُهَا عَامًّا لِكُلِّ سَائِرٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهَا وَلَا يَمُرُّ بِهَا، وَإِنَّمَا الدَّرْبُ الْأَعْظَمُ وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ هُوَ دَرْبُ الْبَقَاءِ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ بِالِانْتِقَالِ إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَإِلَّا فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى خَطَرٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْفَقْرِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ أَشْرَفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا. بَلْ هِيَ رُوحُ كُلِّ مَنْزِلَةٍ وَسِرُّهَا وَلُبُّهَا وَغَايَتُهَا. وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْفَقْرِ. وَالَّذِي تُرِيدُ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. فَإِنَّ لَفْظَ الْفَقْرِ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ. أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}- الْآيَةَ أَيِ الصَّدَقَاتُ لِهَؤُلَاءِ. كَانَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ. لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا عَشَائِرُ. وَكَانُوا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَكَانُوا وَقْفًا عَلَى كُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ. هَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي إِحْصَارِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: حَبْسُهُمُ الْفَقْرُ وَالْعُدْمُ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: لَمَّا عَادَوْا أَعْدَاءَ اللَّهِ وَجَاهَدُوهُمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَحُصِرُوا عَنِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ. فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ- لِفَقْرِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَضَعْفِهِمْ- لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ، وَلِكَمَالِ عِفَّتِهِمْ وَصِيَانَتِهِمْ يَحْسَبُهُمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ أَغْنِيَاءَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}- الْآيَةَ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}. فَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ: خَوَاصُّ الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ. وَالثَّالِثُ: الْفَقْرُ الْعَامُّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ: غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ. فَالْفُقَرَاءُ الْمَوْصُوفُونَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: يُقَابِلُهُمْ أَصْحَابُ الْجِدَةِ، وَمَنْ لَيْسَ مُحْصَرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَكْتُمُ فَقْرَهُ تَعَفُّفًا. فَمُقَابِلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مُقَابِلِ الصِّنْفِ الثَّانِي. وَالصِّنْفُ الثَّانِي: يُقَابِلُهُمُ الْأَغْنِيَاءُ أَهْلُ الْجِدَةِ. وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمُتَعَفِّفُ وَغَيْرُهُ. وَالْمُحْصَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ. وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: لَا مُقَابِلَ لَهُمْ. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالْفَقْرِ شَيْءٌ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مَنْ أَنْ يُسَمَّى فَقْرًا. بَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبُّهَا. وَعَزْلُ النَّفْسِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ. فَقَالَ: حَقِيقَتُهُ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَرَسْمُهُ: عَدَمُ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا. يَقُولُ: عَدَمُ الْوُثُوقِ بِهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا. وَهُوَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: شَيْءٌ لَا يَضَعُهُ اللَّهُ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُحِبُّهُ. وَيَسُوقُهُ إِلَى مَنْ يُرِيدُهُ. وَسُئِلَ رُوَيْمٌ عَنِ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِرْسَالُ النَّفْسِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يُحْمَدُ فِي إِرْسَالِهَا فِي الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يُؤْمَرُ بِمُدَافَعَتِهَا وَالتَّحَرُّزِ مِنْهَا. وَسُئِلَ أَبُو حَفْصٍ: بِمَ يَقْدَمُ الْفَقِيرُ عَلَى رَبِّهِ؟ فَقَالَ: مَا لِلْفَقِيرِ شَيْءٌ يَقْدَمُ بِهِ عَلَى رَبِّهِ سِوَى فَقْرِهِ. وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ وَكَمَالُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَسْتَحِقُّ الْفَقِيرُ اسْمَ الْفَقْرِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَبْقِ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَهُوَ لَهُ. وَهَذِهِ مِنْ أَحْسَنِ الْعِبَارَاتِ عَنْ مَعْنَى الْفَقْرِ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّهُ يَصِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَا يَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ. فَمَتَى بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ نَفْسِهِ فَفَقْرُهُ مَدْخُولٌ. ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِنَفَسِهِ فَهُوَ لِلَّهِ. فَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا تَكُونَ لِنَفْسِكَ. وَلَا يَكُونَ لَهَا مِنْكَ شَيْءٌ، بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ لِلَّهِ. وَإِذَا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ وَاسْتِغْنَاءٌ مُنَافٍ لِلْفَقْرِ. وَهَذَا الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: لَا تُنَافِيهِ الْجِدَةُ وَلَا الْأَمْلَاكُ. فَقَدْ كَانَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ فِي ذُرْوَتِهِ مَعَ جِدَتِهِمْ، وَمُلْكِهِمْ، كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبَا الضِّيفَانِ. وَكَانَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْمَوَاشِي، وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَكَذَلِكَ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} فَكَانُوا أَغْنِيَاءَ فِي فَقْرِهِمْ. فُقَرَاءَ فِي غِنَاهُمْ. فَالْفَقْرُ الْحَقِيقِيُّ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ الْعَبْدَ- فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ- فَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَالْفَقْرُ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ. وَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ لَهُ لِشُهُودِهِ وَوُجُودِهِ حَالًا، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا *** كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيُّ وَلَهُ آثَارٌ وَعَلَامَاتٌ وَمُوجِبَاتٌ وَأَسْبَابٌ أَكْثَرُ إِشَارَاتِ الْقَوْمِ إِلَيْهَا. كَقَوْلِ بَعْضِهِمُ: الْفَقِيرُ لَا تَسْبِقُ هِمَّتَهُ خَطْوَتُهُ. يُرِيدُ: أَنَّهُ ابْنُ حَالِهِ وَوَقْتِهِ. فَهِمَّتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى وَقْتِهِ لَا تَتَعَدَّاهُ. وَقِيلَ: أَرْكَانُ الْفَقْرِ أَرْبَعَةٌ: عِلْمٌ يَسُوسُهُ، وَوَرَعٌ يَحْجِزُهُ، وَيَقِينٌ يَحْمِلُهُ، وَذِكْرٌ يُؤْنِسُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: حَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَنْ لَا يَسْتَغْنِيَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ. وَسُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَتَى يَسْتَرِيحُ الْفَقِيرُ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: أَحْسُنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ: دَوَامُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَقِيلَ: مِنْ حُكْمِ الْفَقْرِ: أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ. فَإِذَا كَانَ وَلَا بُدَّ فَلَا تُجَاوِزُ رَغْبَتُهُ كِفَايَتَهُ. وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ وَلَا يُمْلَكُ. وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا: مَنْ يَمْلِكُ وَلَا يَمْلِكُهُ مَالِكٌ. وَقِيلَ: مَنْ أَرَادَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا. وَمَنْ أَرَادَهُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مَاتَ غَنِيًّا. وَالْفَقْرُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ. وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَبِدَايَتُهُ: الذُّلُّ. وَنِهَايَتُهُ: الْعِزُّ. وَظَاهِرُهُ: الْعَدَمُ. وَبَاطِنُهُ: الْغِنَى. كَمَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ: فَقْرٌ وَذُلٌّ؟ فَقَالَ: لَا. بَلْ فَقَرٌّ وَعِزٌّ. فَقَالَ: فَقْرٌ وَثَرَاءٌ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ فَقَرٌّ وَعَرْشٌ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ. وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ دَوَامَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ- مَعَ التَّخْلِيطِ- خَيْرٌ مِنْ دَوَامِ الصَّفَاءِ مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالْعُجْبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا صَفَاءَ مَعَهُمَا. وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْفَقْرِ عَلِمْتَ أَنَّهُ عَيْنُ الْغِنَى بِاللَّهِ. فَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ: أَيُّ الْحَالَيْنِ أَكْمَلُ؟ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ، أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ؟. فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَإِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ. وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَغَانِيُّ فَقَالَ: إِذَا صَحَّ الِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ، وَإِذَا صَحَّ الِاسْتِغْنَاءُ بِاللَّهِ كَمَلَ الْغِنَى بِهِ. فَلَا يُقَالُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: الِافْتِقَارُ أَمْ الِاسْتِغْنَاءُ؟ لِأَنَّهُمَا حَالَتَانِ لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى. وَأَمَّا كَلَامُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ. فَعِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ: أَنَّ التَّفْضِيلَ لَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى. وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحَقَائِقِ. فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا فَاسِدَةٌ فِي نَفْسِهَا. فَإِنَّ التَّفْضِيلَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى، وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ. لَا بِفَقْرٍ وَلَا غِنًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وَلَمْ يَقُلْ أَفْقَرُكُمْ وَلَا أَغْنَاكُمْ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ وَسَّعْتُ عَلَيْهِ وَأَعْطَيْتُهُ: أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ وَقَتَّرْتُ: أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ، فَالْإِكْرَامُ: أَنْ يُكْرِمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِطَاعَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ. وَالْإِهَانَةُ: أَنْ يَسْلُبَهُ ذَلِكَ. قَالَ- يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ- وَلَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ. بَلْ بِالتَّقْوَى، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَتَذَاكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَ: لَا يُوزَنُ غَدًا الْفَقْرُ وَلَا الْغِنَى، وَإِنَّمَا يُوزَنُ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحَالٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لَا بُّدَ لَهُ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ. فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفٌ صَبْرٌ. وَنِصْفٌ شُكْرٌ. بَلْ قَدْ يَكُونُ نَصِيبُ الْغَنِيِّ وَقِسْطُهُ مِنَ الصَّبْرِ أَوْفَرَ. لِأَنَّهُ يَصْبِرُ عَنْ قُدْرَةٍ، فَصَبْرُهُ أَتَمُّ مَنْ صَبْرِ مَنْ يَصْبِرُ عَنْ عَجْزٍ. وَيَكُونُ شُكْرُ الْفَقِيرِ أَتَمَّ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْفَقِيرُ أَعْظَمُ فَرَاغًا لِلشُّكْرِ مِنَ الْغَنِيِّ. فَكِلَاهُمَا لَا تَقُومُ قَائِمَةُ إِيمَانِهِ إِلَّا عَلَى سَاقِي الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. نَعَمِ، الَّذِي يَحْكِي النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فَرْعًا مِنَ الشُّكْرِ، وَفَرْعًا مِنَ الصَّبْرِ. وَأَخَذُوا فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا. فَجَرَّدُوا غَنِيًّا مُنْفِقًا مُتَصَدِّقًا، بَاذِلًا مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ، شَاكِرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ. وَفَقِيرًا مُتَفِرِّغًا لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلِأَوْرَادِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الطَّاعَاتِ، صَابِرًا عَلَى فَقْرِهِ. فَهَلْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ ذَلِكَ الْغَنِيِّ، أَمِ الْغَنِيِّ أَكْمَلُ مِنْهُ؟. فَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا: أَنَّ أَكْمَلَهُمَا أَطْوَعُهُمَا. فَإِنْ تَسَاوَتْ طَاعَتُهُمَا تَسَاوَتْ دَرَجَاتُهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ. الْفَقْرُ تَعْرِيفُ الْفَقْرِ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَلَكَةِ. عَدَلَ الشَّيْخُ عَنْ لَفْظِ عَدَمِ الْمَلَكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَلَكَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَلَكَةِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ حَقِيقَةً. فَعَدَمُ الْمَلَكَةِ: أَمْرٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي الْفَقْرِ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ: هُوَ فَقْرُ الِاخْتِيَارِ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَقْرِ. وَهُوَ بَرَاءَةُ الْعَبْدِ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُ مَالِكَهُ الْحَقَّ. وَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ لَهُ. وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ. فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَيُسَلِّمْهَا لِمَالِكِهَا الْحَقُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الْفَقْرِ قَدَمٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ قَدَمِ الْفَقْرِ: الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُهَا لِمَالِكِهَا وَمَوْلَاهَا. فَلَا يُخَاصِمُ لَهَا وَلَا يَتَوَكَّلُ لَهَا وَلَا يُحَاجِجُ عَنْهَا وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا وَسَيِّدِهَا. قَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا تُخَاصِمْ لِنَفْسِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ. دَعْهَا لِمَالِكِهَا يَفْعَلُ بِهَا مَا يُرِيدُ. وَقَدْ أَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْفَقْرِ. وَلَا دُخُولَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|